التاريخ والآثارالعلوم الاجتماعية

صورة الكاتب كمؤرخ: يوكيو ميشيما نموذجًا

ارتكب الكاتب الياباني المشهور فعلا احتجاجيا صادما نابعا من حنقه الشديد على اندفاع موطنه الأصل نحو تبني الحداثة الغربية.

طريق الساموراي: ميشيما يوم انتحاره. (وكالة الصحافة الفرنسية / Getty Images )

في الصباح الباكر من الخامس والعشرين من نوفمبر عام 1970، وضع يوكيو ميشيما اللمسة الأخيرة على روايته “سقوط الملاك”، في منزله في طوكيو. وبحذر وضع المسودة جانبا، وذهب لأخذ حمام وارتدى ثيابه . كان قد اختار ملابسه بدقه: رداء بني من تصميمه الخاص، عصابة رأسه “هاشيماكي” وزوج من القفازات البيضاء. حالما رضي عن مظهره، تناول سيفه وغادر المنزل. سار نحو ثكنة إيتشيغايا العسكرية برفقة أربعة شبان ينتمون لجماعة “درع المجتمع” (وهي جماعة خاصة انضم لها قبل سنوات)، المقر الشرقي لقوات الدفاع اليابانية ، حيث كان لديه موعد مع القائد، الجنرال كانيتوشي ماشيتا. لحظة دخوله مكتب ماشيتا، أُخذ رهينة وسُد الباب. وأُصدرت أوامر للجنود في القاعدة بالتجمع أمام المبنى. وفي وقت الظهيرة، تجمعت القوات ومجموعة من الصحفيين في المكان . في تلك اللحظة خطا ميشيما نحو الشرفة وبدأ خطابه مهاجما دستور اليابان الضعيف في الفترة التي تلت الحرب، وحاثًا الجنود للنهوض والتمرد. ولكن تلاشت كلماته وسط سخرية الحشد. بعد سبع دقائق، استسلم ميشيما؛ لن يكون هناك انقلاب. عاد للداخل وبهدوء جلس على الأرض، أخرج سيفه وطعن نفسه في بطنه. انهار للأمام فورا ليكمل أحد أصدقائه، ماساكاتسو موريتا، تقاليد السيببكو بقطع رأس ميشيما. لكن موريتا فشل، حيث هو أيضا قد قام بنزع أحشائه بنفسه، فتقدم شريك آخر، هيروياسو كوغا، وقطع رأس ميشيما.

الموت الروحي

بقدر ما كان انتحار ميشيما  انتحارًا تاريخيًا ، كان انتحارًا سياسيًا أيضًا.  بغضّ النظر عن نجاحه ككاتب وترشيحه لجائزة نوبل ثلاث مرات، لطالما شعر بنفور من المجتمع الياباني الحديث. فقد ولد في أسرة ساموراي عريقة، وترعرع  على احترام البوشيدو “طريق المحارب”، التي ترسخ احترام الشرف، والشجاعة، والإيثار. ولكنه كان يعي أن أيام الساموراي قد انتهت منذ أن كان طفلًا. فمنذ استعادة ميجي عام 1868، جلب ذلك نهاية عهد الشوغن وكل ما كان متصلًا به وفُتحت اليابان على طول الخطوط الغربية. وقد شهدت اليابان انتصارات مذهلة في العقد اللاحق، بهزيمة البحرية الروسية في معركة تسوشيما عام 1905 وتحرير منشوريا من الحكم الصيني عام 1931. وحتى ميشيما نفسُه انخرط في موجة الحماسة الوطنية. ورغم تصنيفه بأنه غير مناسب للخدمة، إلا أنه لطالما أراد الانضمام للجيش في الحرب العالمية الثانية وندم على عدم استشهاده لأجل الإمبراطور في المعركة. وكان إيمانه دوما أن الروح اليابانية الحقيقية، روح الساموراي، قد تلاشت. واستبدلت بثقافة تشوبها المادية، وكان الوضع يسوء أكثر فأكثر. فالخضوع الياباني “الخامس عشر من أغسطس 1947″، ونكران الإمبراطور ألوهيته “الأول من يونيو 1946” ، والتخلي عن الحرب “الثالث من مايو 1947″، وامتصاص العادات الأمريكية شهدت جميعها على فراغ الروح اليابانية الأصيلة.

كشفت العديد من أعمال ميشيما الأولى عن إحساسه بالغربة الثقافية. ففي شبه السيرة الذاتية التي كتبها  “اعترافات قناع 1949” قصّ حكاية كوتشان؛ صبي صغير ضعيف البنية يكافح من أجل الاندماج في المجتمع الياباني قبل الحرب. مهووس بالرجولة والموت والشرف من جانب ومعذبا بنزعات شاذة كامنة فيه من جانب آخر، يضطر كوتشان لخلق شخصية كاذبة تخفي شخصه الحقيقي عن العالم.

غير أن اختلاف  ميشيما  زاد من رغبته في مقاومة الحداثة بشكل نشط أكثر في بدايات العام 1960. ففي رواية (البحّار الذي لفظه البحر)  1963، تطرق  لغربة الشاب نوبورو كورودا من طرق والدته الغربيّة الفاسدة. في البداية، يرى الأمل  في حبيب أمه الجديد، البحار ريوكي تسوكازاكي، الذي كان تجسيدا للإيثار البطولي. لكن حين يعلم أن ريوكي سيترك البحر ليتزوج من أمه، يخطط نوبورو وصديقه لقتله.

وهذه هي العقلية التي كانت خلف محاولة ميشيما للانقلاب. ففي البيان الذي أعده  قبل محاولة الانقلاب، بيّن  كيف عاصر هو وأصدقاؤه المتآمرون اليابان وهي تصبح “ثملة بالازدهار وواقعة في فراغ الروح”. مؤمنين أنه في الجيش فقط تكمن روح  اليابان الحقيقة، روح الساموراي، وأنهم  عزموا على إيقاظ القوات ووضع نهاية لهذا الانحطاط.

السمو

بالرغم من كل ذلك سيكون من الخطأ الإيحاء أن ميشيما أراد استرجاع  الماضي فحسب. بقدر ما كان يقدّر البوشيدو، كان يعلم أن جذور الساموراي تعود للظروف التاريخية التي سادت فترة إيدو (1603-1868) بالرغم من أنه من المفيد دراسة طرقهم حيث قال ” إن التعلم من التاريخ لا يعني أبدًا قطع جزء معين من حقبة معينة واستخدامه كمثال لإعادة تشكيل جزء من الحاضر.”

بدلا من ذلك، كان هدف ميشيما إحداث يقظة روحية تساعد اليابان على السمو بتاريخها الحاضر. وإن كان الساموراي، كفئة محاربة، انبثقت من ظروف تاريخية لا تكرر، كان يؤمن ميشيما أن البوشيدو نتج من معتقدات روحية خالدة مصدرها البوذية. البوذية  التي دخلت لأول مرة في اليابان عام 552، واختلطت بالديانة اليابانية الأصلية (الشينتو). ولكن بعد استعادة ميجي، شُوهت سمعة البوذية كديانة أجنبية مستوردة وفُصلت بشكل رسمي عن الشينتو، والتي تحولت لأداة في يد سياسيي الدولة. في رأي ميشيما، هذا الانفصال كان السبب الخفي لمصائب اليابان. وبشكل عام، إعادة اكتشاف البوذية كان هو مفتاح الخلاص.

السعي للحركة المستمرة (سامسارا)

ضخّم ميشيما ما كان يؤمن أنه ضروري  في رباعيته بحر الخصب. هذه الرباعية التي تحكي الرحلة الروحية لشيغيكوني هوندا في فترة 1912 إلى 1970 حيث يمر عبر الاضطرابات في تاريخ اليابان الحديث. جوهر الرواية هو استكشاف للعقيدة البوذية. من بدء الاعتقاد أن كل شيء في العالم متحول وغير دائم، وأن  أي محاولة لإيجاد سعادة دائمة أو رضا دائم  أمرٌ مستحيل و مصيره الفشل. ولكن بغض النظر، ما تزال الكائنات البشرية مستمرة  بالسعي خلفها. هذا السعي غير المثمر والذي يأتي على هيئة الرغبات الحسية، والغضب الذي تدفعه الأنا، والبحث الأعمى عن المتعة ينتج أثرًا (كارما) ثمرتُهُ في وجود متجدد. وهذا بدوره يؤدي لدائرة مؤلمة من الموت والولادة (سامسارا). بإدراك المرء للطبيعة المخادعة للعالم وإدراك حقيقة السامسارا، يمكنه فقط  اتباع  طريق الحق والتحرر من الدائرة. وبذلك، يصل المرء للنيرڤانا، وهي  حالة من النعيم الكامل، حيث لا معنى للزمن.

درس هوندا هذا المبدأ منذ أن كان صغيرا وتعلم بشكل ملم هذه النظرية. لكنه لم يفهم معناها حقًا سوى بتطبيقها على نفسه. على مدار الروايات الثلاث الأولى – ثلج الربيع 1968، والجياد الهاربة 1970، ومعبد الفجر 1970، شهد إعادة تجسد صديقة طفولته، كيواكي ماتسوغاى، أولا كثورية يمينية الجناح فأميرة تايلندية. وبها جسّد  ثلاثية أنواع السعي غير المثمر (الشهوة، الغضب والجهل)، وكلاهما توفيا غير راضيين في العشرين من عمرهما. لكن في سقوط الملاك، عندما شهد هوندا تجسيد الأميرة مراهقا اسمه تورو، استوعب أخيرا أهمية السامسارا.

وتبنى تورو بهدف كسر الدائرة . فكان يظن أنه لو استطاع مساعدة الصبي في العيش لما بعد سن العشرين، فإن كل شيء سيكون على ما يرام. إلا أن تورو كان قاسيا، وهوندا بدأ يفقد أمله. لكن، في يوما ما، ابتلع تورو سُمًّا وانسحب من العالم. في تلك اللحظة تذكر هوندا أن تلك كان طريقة موت الملاك كما تصفها الكتابات البوذية. هكذا يصف الأدب البوذي سقوط الملاك. ويتضح أمامه كل شيء، أخيرا يفهم السامسارا ويرى أوهام العالم كما هي حقًا. و يوقن أيضا أنه يجب أن يبتعد عنها كذلك. ولذا يستعد للموت، متخليا عن ذاته وواثقا أن النيرڤانا تنتظره.

لأجل هذا حاول ميشيما إيقاظ قوات إيشيغايا. كان يؤمن أنهم لو احتضنوا الحقيقة البوذية التي عززت البوشيدو، سيتبنون مبدأ الإيثار بدلا من الانغماس، الموت بدلا من الحياة. سيكونون مستعدين للسمو باليابان فوق تاريخها الحديث. لكن ميشيما كان غير مكترث لفشله. كونه أدرك هذه الحقيقة بنفسه، فقد تغلب على أنانيته واستعد لموته. بينما تدلى رأسه من جسده، مثل هوندا دخل مكانًا “حيث لا ذكريات فيه، حيث لا شيء.”


بقلم: الكسندر لي | ترجمة: حفصة الحسن | تدقيق: روان البداعية | المصدر

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى